كتاب الأمير - لعراب السياسة ميكافيلي
يعتبر كتاب الأمير لنيكولو مكيافيلي واحدًا من أكثر كتب الأدبيات السياسة تأثيرًا عبر التاريخ، وهو شهادة حية تسجِّل لمكيافيلي نضجه المبكر في العلوم السياسية، وقدرته على تقديمها في إطار مبسط ومتقدم في آن معًا.
يعود الفضل إلى هذا الكتاب في تأسيس ما يسمى اليوم بالمكيافيلية السياسية، أو بالمصطلح الشائع، المكافيلية السياسية (بحذف الياء)، التي ينظر إليها الكثيرون من زاوية القاعدة الشهيرة التي أرساها الكتاب، وهي أنَّ الغاية تبرر الوسيلة. إلا أنَّ اختصار مضمون الكتاب بهذا المبدأ ينطوي على ظلم تاريخي كبير، حيث أنَّ مكيافيلي، وبرغم هذه البراغماتية (التي تتصف بها السياسة على كل حال)، قدم طروحات هامة عن مبادئ رفاه الشعب وأمنه، وهو ما يتناقض مع الصورة القاتمة واللاأخلاقية التي يقدمها الكثيرون عن نظريته انطلاقًا من هذه العبارة.
يقع الكتاب في ستة وعشرين فصلًا، يُقدم كل منها وجهة نظر مكثفة فيما يراه نيكولو مكيافيلي "الممارسات السياسية الأفضل" في جانب من جوانب الحكم والسياسة. يضع مكيافيلي ضمان الحكم وبقاء الحاكم في عرشه كهدف نهائي لكل هذه الممارسات، إلا أنَّه يقدم في هذا الإطار أفكارًا متنوعة تصب في خانة ازدهار الأمير والإمارة في نفس الوقت.
الخلفية التاريخية
وُلد نيكولو مكيافيلي في فلورنسا في عام 1469، وقد كان ذلك العصر عصرَ تقلبات سياسية وعسكرية كبيرة في إيطاليا، تميزت بظهور ممالك وإمارات واختفاء أخرى، وبالغزو الخارجي للبلاد، وتحالف إمارات مختلفة مع هذا الغزو، بالإضافة إلى توسع السلطة الدنيوية للفاتيكان، وتدخل الباباوات في الشؤون السياسية والحربية أيضًا. في عام 1498، تحولت فلورنسا إلى جمهورية، وحصل مكيافيلي على منصب إداري في الحكومة الجديدة، وسرعان ما ارتقى السلم الوظيفي ليصل إلى مناصب عليا، مكتسبًا خبرة واسعة أضافت إلى قراءاته الواسعة والغنية. ومع اقتراب الجمهورية من السقوط وعودة حكم آل ميديتشي إلى فلورنسا، لفت مكيافيللي صعود قيصر بورجا، الذي يرد اسمه مرات عديدة في الكتاب، ويبدو جليًا إعجاب مكيافيلي بأساليبه. وبرغم هذا الإعجاب، نجد مكيافيلي يهدي كتابه إلى "العظيم لورينزو دي بييرو دي ميديتشي"، الذي أسقط الجمهورية الفلورنسية. ليس واضحًا إن كان الكتاب قد كُتب خصيصًا لدي ميديتشي، كما أنَّ من الصعب أن نعرف بدقة ما إذا كان دي ميديتشي قد قرأه أساسًا، إلا أنَّ في هذا الإهداء الكثير من التملق السياسي الذي يضعف من أهمية الكتاب، وهو ما يعيده مكيافيلي في الفصل الأخير من "الأمير".
أبواب الكتاب
ينقسم الكتاب على ستة وعشرين فصلًا، يناقش كل منها جانبًا من جوانب الحكم والسياسة. سنناقش فيما يلي بعض الأفكار التي كانت متقدمة على عصر مكيافيللي، والتي تركت أثرًا تاريخيًا هامًا لم ينقطع حتى اليوم.
مع أنَّ الشهرة الأساسية للمكيافيلية السياسية تدور حول النظرة البراغماتية ومبدأ الغاية تبرر الوسيلة، إلا أنَّني شخصيًا أجد أنَّ النظرة التي طرحها كتاب الأمير لعلاقة الدين بالسياسة كانت ذات قيمة لا تقل أبدًا عن هذا المبدأ، إن لم تتفوق عليه في الأهمية. يبدأ مكيافيلي طرح هذا الموضوع من خلال تقسيم الإمارات إلى نوعين: المدنية والدينية. وفي سياق الحديث عن الإمارة الدينية، وبرغم المقدمة البلاغية التي أعتقد أنَّ مكيافيلي اضطر لوضعها هربًا من معاداة الكنيسة (التي كانت كما أسلفنا تتمتع بسلطات دينية ودنيوية واسعة، خصوصًا أنَّ قيصر بورجا كان ابن البابا ألكساندر الثالث)، إلا أنَّ مكيافيلي يطرح موضوع السلطة الدينية بواقعية كبيرة، ويتحدث عن دور التوازنات السياسية في منح سلطة دنيوية للبابوية، وكذلك عن الأساليب الملتوية للباباوات في الاستحصال على هذه السلطات وتمكينها.
إلا أن الطرح الأكثر إثارة للجدل في كتاب الأمير يبقى من دون شك موضوع العلاقة بين السياسة والأخلاق. ففي الفصل السادس عشر، ينصح مكيافيلي الأمير بالكرم حين يكون الكرم مفيدًا له في السياسة، وألا يتوانى عن البخل إن كان فيه منفعة له. أما في الفصل السابع عشر، فيقدم مكيافيلي النصح في موضوع البطش واللين، ولا يتوانى عن نصح الأمير باستخدام القتل والبطش لتمكين حكمه، وإن كان يركز على أهمية ألا يكون البطش مفرطًا وألا يأتي على الأمير بكراهية الشعب. أما الفصل الثامن عشر، فيحمل واحدة من أكثر العبارات إثارةً للجدل، ففيه ينصح مكيافيلي الأمير بعدم الالتزام بالعهود التي يقطعها إلا حين يكون هذا الالتزام مفيدًا له، وألا يتردد في النكث بعهوده عند الضرورة. وفي هذا السياق، يقول مكيافيللي أنَّ على الأمير أن يكون أسداً في القوة وثعلبًا في المكر والاحتيال، وأنَّ أيًا منهما دون الآخر لن يكون كافيًا للحفاظ على الحكم، لينتهي إلى قاعدته الشهيرة، أنَّ الغاية تبرر الوسيلة.
إلا أنَّ جرأة مكيافيلي في طرح موضوع العبء الأخلاقي على الحاكم لم تكن إلا إعلانًا تاريخيًا يكشف ما هو واقع أصلًا، ويحوله إلى أدبيات موثقة. لقد نال هذا الفصل من النقد والجدل أكثر من أي فصل آخر في الكتاب، وأكثر من أكثر الكتب عبر التاريخ، إلا أنَّ ربط اسم مكيافيلي بالسياسة غير الأخلاقية هو ظلم تاريخي من دون شك، حيث أنَّ فحوى كتاب الأمير يعود في كل مرة، ربما باستثناء هذا الفصل، بالمنفعة على الجمهور، وإن كانت هذه المنفعة غير مباشرة. ففي الفصل العشرين على سبيل المثال، يقرر مكيافيلي أنَّ أمان الأمير هو برفاه شعبه، وأنَّ القلاع والحصون لا تغني من يكرهه الشعب. كذلك يُعيد الكرة في الفصلين الثاني والعشرين والثالث والعشرين، حيث ينبه الأمير على ضرورة اختيار أعوان ووزراء مقبولين من الشعب في الأول، وعلى أن يتجنب المتلقين ويحرص على سماع الحقائق في الثاني. وهنالك أمثلة أخرى كثيرة توضح أنَّ مكيافيلي وإن وجه كتابه إلى الحاكم، إلا أنَّه سعى إلى مصلحة الشعب بشكل أو بآخر.
الأثر التاريخي
من المعروف اليوم أنَّ كتاب الأمير لنيكولو مكيافيلي ترك أثرًا عميقًا على الحياة السياسية الغربية في العصور الحديثة، أثرٌ يقترب من وصف "التاريخي". فعلى سبيل المثال، تأثر الملك هنري الثامن إلى حد كبير بتعاليم مكيافيلي أثناء الانتقال بإنجلترا إلى البروتستانتية، كما أنَّ الملك الكاثوليكي تشارلز الخامس كان من قراء الكتاب المعروفين. كذلك يرتبط اسم مكيافيلي بكاثرين دي ميديتشي ومجزرة سانت برثولوميوس داي.
في السياسة الحديثة، تحتل عبارة المكيافيلية السياسية دورًا أساسيًا في وصف السياسة الواقعية والنفعية البراغماتية، ويمكن القول إنَّ تعاليم مكيافيلي برغم بساطتها هي حجر الأساس للسياسة الدولية اليوم. ربما يكون المثال الأقرب على ذلك هو الأزمة الليبية الماضية وانقلاب حكام الدول الأوروبية على العقيد معمر القذافي، بعد أن كانوا يتعاملون معه كمرشد وملهم (كما في حالة رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني الذي اشتهر بصورته وهو يقبل يد القذافي، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي أطاحت به فضيحة تلقيه لأموال من القذافي لتمويل حملته الانتخابية). من جهة أخرى، تعتبر قضايا الرفاه الاجتماعي في الغرب وتأثيرها على سير العمليات الانتخابية أحد أبرز تجليات مبدأ مكيافيلي أنَّ الحفاظ على الحكم غير ممكن دون رضى الشعب ورفاهه.
من الصعوبة بمكان أن نلم بأهم ما ورد في كتاب بأهمية كتاب الأمير في مراجعة قصيرة كهذه، وأنا أدعو القراء إلى تصفح الكتاب وتقديم قراءاتهم الخاصة عنه، آملًا أن تكون هذه المراجعة السريعة قد نجحت في إثارة فضول القارئ الكريم ليبدأ بقراءة واحد من أهم الكتب التاريخية على الإطلاق.
إرسال تعليق